Tuesday, July 1, 2014

المسلمون وضرورة الوعي التاريخي

عبد القادر عبار

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم


هذه الخواطر التي تأخذ شكل المقالات التي كنت نشرتها في بعض الصحف والمجلات . وقد عزمت على لمَ شتاتها وتجميعها في هذا الكتيب قصد تعميم الفائدة من قراءتها وتدبرها رغم تواضعها.
وإذا كانت مواضيعها مختلفة وعناوينها متنوعة.. إلا أنها تلتقي حول محور واحد ׃ وهو محور الوعي التاريخي.
وهو محور يحتاج في الحقيقة إلى تخصصات عالية وكفاءات ممتازة لمعالجته معالجة دقيقة وشاملة وإيفائه حقه في التحليل والطرح... إلا أن ذلك لا يعني عدم المشاركة في الكتابة فيه وإثارته من طرف الآخرين ممن هم اقل كفاءة وتجربة وتخصصا.. ما دامت تشغلهم هموم المسلمين التاريخية والحضارية وغيرها... وتهمهم قضايا الترشيد الثقافي وتنمية الوعي الحضاري لدى شباب المسلمين حتى يستعيدوا دورهم الخلافي والقيادي في تعمير الأرض وإقامة البديل الإسلامي المشرق׃ حيث العدل والأمن والحرية.

عبد القادر عبار


بين الجزم والتميّع

1) الإسلام محجوب بالمسلمين

ما اقبح أن توضع صورة متقنة بديعة براقة في إطار بخس عتيق لا يلائمها البتة فهو بقدر ما يزهد العين في النظر إليها وتأملها  يصد النفس عن تذوقها وتلمس ملامح الحسن فيها ويحجبها عن أي تقييم صحيح . ومن هذا المنطلق ندرك مدى عمق تلك المقالة الجامعة التي أعلنها الشيخ الداعية محمد عبده في قولته الحكيمة "الإسلام محجوب بالمسلمين" بعد تجربته الطويلة في أغوار النفس والمجتمع الإسلامي.

الإسلام بتعاليمه السمحاء وتشريعاته القويمة يمثل الصورة الكاملة البديعة والمثالية للأديان السماوية غير أن الإطار الذي وجد فيه خلال السنين والقرون الأخيرة هو إطار فاسد متآكل لا يلائم حسنه وإشراقه ׃ إذ المسلمون الذين انتسبوا إليه ومثلوه في تلك السنين العجاف ببدعهم المظلمة وتجاوزاتهم المجحفة وأعمالهم المخالفة وجهلهم وكسلهم وتميعهم.. قد حجبوا الإسلام وغطوا حقيقته بما اقترفوا من بدع العبادات وفساد العادات الشيء الذي مهد -وللأسف- للأعداء على اختلافهم فرص التجريح والنقد والهدم والاتهامات القاسية لهذا الدين الحنيف الذي رأوا فيه- من خلال ما شاهدوا لا من خلال ما علموا وتحققوا- سبب التخلف والجهل والمرض والوسخ.
وفي هذا الصدد يقول المرحوم محمد فريد وجدي في بيان هذا الموقف الذي يقفه الغرب منا ومن ديننا ׃ " يجب أن نغفر للأوروبيين تصديقهم لكل الافتراءات ضد الإسلام والمسلمين.. فهم- أي الأوربيون- على حق إذا اظهروا العداء تجاه ديننا طالما كانوا لا يجدون أمامهم إلا البدع التي حذقها أناس تافهوا العقول وقبلها الجمهور وزاد فيها أشكالا أخرى من الخطأ ومخالفة الطبيعة البشرية وقوانين الحضارة.. وكيف نأمل أن يفهم الأوروبيون لب ديننا -الدين الوحيد الذي يحمل السعادة الحقة- طالما كانوا لا يعلمون إلا ملامح خارجية معينة للإسلام يشاهدونها كل يوم مثل الاجتماعات الصاخبة في الشوارع سائرة خلف الأعلام والطبول ( يشير بهذا إلى مواكب الصوفية -الحضرة- التي تزحف في الشوارع بأعلامها وطبولها تملا الآفاق صياحا بما يسمونه ذكر الله)... والحفلات الممجوجة المخالفة لكل وعي والتي تقام في عدد من المدن الإسلامية يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم... والاجتماعات في حلقات واسعة أمام الآلاف من الناس والتراتيل الصوفية التي تؤدى بصوت قوي مصحوبة بالتمايل يمينا وشمالا ونحو ذلك..." (1)

أ) قرآن يتحرك

وخلافا لذلك كان السلف الطيبون الصالحون الترجمان الصادق الناصع للإسلام والإطار الملائم البديع للدعوة فقد كانت تعاليم الدين السمحاء وتشريعاته النقية ترى في كل صغير وكبير فيهم׃ كانوا بحق والله إسلاما يمشي في الطريق وقرآنا يتحرك في الأسواق لم يضيفوا إليه ما يخدش حسنه أو يجفف إشعاعه أو يحجب في كثير أو قليل عن العالمين كماله وبهاءه.
والحقيقة المرة أن المشاهد لحال المسلمين الآن وفي فترة التخلف والدارس لحقيقة الإسلام وأحوال المسلمين الأوائل يقع في حيرة ويأسف للتناقض الحاصل ׃ " فالتاريخ يقول لهم عن الإسلام شيئا ويرسم في آبائهم الأولين صورة مشرقة لآثار الإسلام فيهم وواقع الحال يقول لهم عن الإسلام شيئا آخر مختلفا اشد الاختلاف عما يقوله التاريخ ويريهم في أنفسهم صورة تختلف تماما عن الصورة التي يقال أن آباءهم الأولين كانوا عليها..." (2)
فالمطلوب من المسلمين الآن إذا كان بهم عزم صادق حقيقي في إظهار حقيقة الإسلام ناصعة للعيان ومؤثرة حقا وحتى يتجنبوا المزالق والاتهامات والتجريح الذي يكيله أعداء الإسلام لهذا الدين.. المطلوب منهم أن يكونوا ترجمانا عمليا ناصعا لتعاليم الإسلام القيم في سلوكياتهم وأعمالهم في سرهم وجهرهم وفي الباطن والظاهر.

ب) شهادة لهذا الدين

يقول المفسر سيد قطب في تفسير آية آل عمران (( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين)) يقول ׃ إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رائعا رفيعا يشهد لهذا الدين  بالأحقية في الوجود وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته ونظام مجتمعه وشريعة نفسه وقومه فيقوم مجتمع من حوله تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم..." (3).
وهذا- بحق- ما فهمه اتباع الأنبياء والصديقون والمخلصون وهذا ما حققه الذين اسلموا وجههم لله -حقيقة- وشهد لهم به التاريخ (( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم))
    
2) لماذا شاخ المسلمون ؟
 *  متى افترش العنكبوت الغربي ديار المسلمين حتى التقم خيراتهم وكنز ذهبهم وفضتهم واستحم بعرق عمالهم؟
 *  متى فقد المسلمون مقعد "الشهادة" على العالم وزج بهم في ذيل القافلة الحضارية في نومة عميقة لم يستفيقوا منها حتى كادت خفاف الغرب- رأسمالية وشيوعية وصهيونية- أن تطأهم وطأ لا حراك بعده لولا أن الله تعالى يقيض لهذه الأمة على راس كل مائة عام من يجدد لها دينها ويبعث الوعي في اتباعها...؟

هذان السؤالان يطرحهما واقع الوضع المتردي الذي ركن إليه المسلمون في فترات الانحطاط الذي احتواهم .. وواضح أن الجواب على هذين السؤالين يتبلور جليا في إرجاع ذلك إلى تلك الفترة الحالكة التي اعترت المسلمين من غياب الجد وفتور روح  الجزم والحسم في تنفيذ تعاليم الدين على مستوى الفرد والجماعة... ونبذهم لمقومات الذاتية الإسلامية وتركهم لأخلاقية الاستخلاف التي كرم الله تعالى بها بني آدم من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. مع تكاسلهم عن تحقيق فريضة الجهاد وخورهم عن المجابهة الحركية للظلم بمختلف أنواعه...
هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى متشابكة ساهمت بقسطها المخزي في سقوط المسلمين وإضعافهم في شتى المجالات.

أ) شيخوخة المسلمين
ضعف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم والجهاد... وبدا عليه الإعياء والشيخوخة. والإسلام لا يعرف الشيخوخة والهرم...انه  جديد كالشمس ولكن المسلمين هم الذين شاخوا وهرموا وضعفوا فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير ولا إبداع في الإنتاج ولا حماسة في الدعوة ولا عرضا جميلا ومؤثرا للإسلام ومزاياه ورسالته.. ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير على عقليته وهوامه الغد وجيله المرتجى.. وفي هذه الحال هجمت أوروبا بفلسفتها" التمييعية" التي تعب في تدوينها كبار الفلاسفة.. وهكذا انتشر الإلحاد والارتداد في الأوساط الإسلامية ثم تطور الأمر وعظم الخطب وشملت المجتمعات الإسلامية على طولها ضبابية حالكة- عقليا وفكريا وعقائديا- حتى فترت في المسلمين جدية الالتزام بحقائق هذا الدين وكسفت شمس المحاسبة الواعية أفقيا وعموديا.

ب) عادات.... لا عبادات

فالشعائر التعبدية لا تحس لها تأثيرا ولا حياة في الوجدان والسلوك لأنها أصبحت تؤدى وكأنها عادات لا عبادات.. حتى لكإنما أصبحت الصلوات ترفيها رياضيا لتنشيط العضلات الرخوة... أو مسلكا صحيا ( ريجيم) لتخفيف ثقل الوزن طلبا للرشاقة.. فتؤدى بالجسد لا بالروح.. لا خشوع فيها ولا لذيذ مناجاة وهزل اليقين في النفوس وغاب الإخلاص والصدق وتذبذبت العقيدة قي القلوب.. وهذا له خطره.. وفي هذا المضمار يقول أحد المفسرين " إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس.. فما يمكن أن يقوم وقد استقر اعتقاد الناس فعلا أن الحكم لله وحده لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده. والخضوع للحكم عبادة بل هي أصلا مدلول العبادة ."
وأما في مجال الاخوة والروابط الاجتماعية... فقد أصبحت الاخوة تحية عابرة باللسان و إشارة فاترة باليد.. قد بعدت عن مدلولها الصحيح الهادف كتلك التي مثلها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ׃ قسمة وإيثارا في الأهل والمال والدماء.
وأما المساجد عندنا فقد أمست هياكل معمارية باهرة نتباهى زخرفتها ونغفل عن الدور الأساسي الذي من اجله جعلت.
ويتعرض أحد العلماء مبينا ومفسرا سنة من سنن التغيير التي تصيب الأمم وهي في أوج حضارتها ورقيها والمفضية إلى انحلالها وتميعها فيقول " في هذه المرحلة الحاسمة- أي مرحلة القناعة بالمحصول والوقوف عند ذلك الحد المحرز عليه من المعرفة- تتخلى هذه الجماعة عن مكانها في القيادة ..إن لم يكن بالرضا والاختيار فبالقوة والجبر لتحل مكانها جماعة أخرى أحرزت قدرا كبيرا من المعرفة وحظا أوفر من العلم ويلازمها عزم وتصميم على بناء الحياة... أما هؤلاء الذين كانوا قادة فيصبحون اتباعا وبعد أن تقدموا القافلة .. يحتلون مكانهم الرمزي من ذيلها..".

 ج) التطرف الصوفي  

وتمثله في أنكى وجه "الطرقية" الغالية׃
فقد اقبل العامة- بقيادة المتصوفين- على الطقوس والأوراد... واقبل الحكام ومن كان في ركابهم وحواشيهم على الشهوات والملذات ... وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول صدع أصاب التفكير الإسلامي في صميمه بل أول صدع أصاب كيان الأمة الإسلامية فيما بعد بالانهيار... فالأفكار الصوفية إذن لا مبادئ الإسلام هي التي حَملت الجماهير أوزار الاستعمار الداخلي والخارجي ووطدت للمظالم الخطيرة وخذلت الناس... حتى تركوا الجهاد وركنوا إلى الكسل والميوعة لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.. الأمر الذي اطمع في استغلالهم الأعداء وزين للظالمين استعبادهم.

3) حين يتخلى المسلمون عن الجد....
إن إرسال أمة من الرسل الأخيار .. من سيدنا نوح إلى خاتم الأنبياء والمرسلين وتحمل الأتعاب التي تنوء دون حملها شم الجبال وتلك الابتلاءات ثم ذلك الجهاد وأخطاره والهجرة وأعباؤها كل ذلك إنما هو برهان ساطع على جدية هذا الدين وجزم هذه العقيدة حيث يلخص ذلك في انسق عبارة المفسر الشهيد سيد قطب رحمة الله تعالى عليه قائلا " إن هذا الدين جد لا يقبل الهزل وجزم لا يقبل التميع وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة. فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه والله غني عن العالمين"

لقد كانت يقظة المسلمين الصادقين الأوائل في حين جدهم ووعيهم بأمانات الدعوة والرسالة تمثل قمعا صارما وتحديا جازما لتحركات المغرضين والمتربصين وسدا منيعا أمام مطامع ودسائس المناوئين والكائدين.
فحركة الردة السامة لولا جدية الخليفة والصدّيق الراشد وحسمه الواعي في وقفها وقطعها من جذورها لكانت بمثابة جرثومة الموت للدعوة الإسلامية في شبابها كما أن جدية الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز في رد أمور الخلافة وشؤون الدولة إلى إطارها الصحيح قد قطعت خبث روح الملك العضوض الذي مد عنقه في ذلك الحين.

أ) في غيبة الجد

بيد انه ما إن تفتر روح الجد لدى المسلمين ويغيب عنهم العزم الصادق في إقامة أمور الدين ... حتى تنقض عليهم جيوش المتربصين وتتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها وهذا ما مهد للحركات الهدامة أن تبرز وتنشط وتمتد هنا وهناك في ديار المسلمين.
فمع بداية القرن ظهرت حركات عدائية ماكرة تستهدف تشويه الساحة العقائدية لامة الإسلام من ماسونية وقاديانية وبهائية وكلها ترضع من الصهيونية القذرة وتقف مع بعضها البعض في تشويه وإلغاء- مثلا- فكرة الجهاد من تصور المسلمين مع خلق بلبلات ونعرات مفتعلة لتشتيت وحدة المسلمين خدمة وتوطينا للاستعمار الغربي ومساعدته على تدمير وتخريب ديار المسلمين.
" هذا الاستعمار الذي استهدف في العصر الأخير أن يضرب الإسلام ضربة تقض مجامعه وتقض مضاجعه وتبعثر أمته بعثرة نفسية وفكرية لا نهاية لها واخترع من فنون الغزو الثقافي ما يملأ به الفراغ الروحي والعقلي الذي اصطنعه في كل ميدان ومهد له في كل مكان..."

ب) حقائق عن بعض هذه الحركات

فمن حقائق البهائية يقول الشيخ العالم محمد الغزالي " عبد البها يمجد الصهيونية والصليبية ويزعم انه مسلم... وقد التحمت البهائية أخيرا بالهجوم اليهودي ووجدت من المال الأمريكي ما يعينها على التمدد والبعث بل إن اغلب خصوم الإسلام والعرب يعينونها على اختطاف الشباب التائه ومسخ عقله وخلقه وماذا عليهم ؟ إن ذلك في نظرهم جبهة تفتح ضد الإسلام ويمكن أن تنال منه."
وأما في القاديانية الفاسدة فانظر ماذا يقول القدياني صاحبها׃ " لقد خطوت اكبر مرحلة من حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاع عنها والفت كتبا كثيرة احرم فيها الجهاد ضدها. لو جمع كل ما كتبته في هذا الصدد لبلغ خمسين كتابا ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم... ووجب على كل مسلم ومسلمة تقديم الشكر إلى هذه الحكومة وحرام على كل مؤمن مقاتلتها بنية الجهاد".
وأما عن المآسي التي لحقت المسلمين في فترات الخمول وغياب الجد والعزم من سموم الماسونية العالمية فهذا بند من بنودها الدنيئة التي نفذتها وترى في مجتمعاتنا بعض آثارها المؤسفة فانظر ما توصي به جنودها ׃" على الماسونيين أن ينفذوا في صفوف الجماعات الدينية وغيرها ...لا بل عليهم إن احتاج الأمر أن يقوموا بتأسيسها على أن لا تشم منها أي رائحة حقيقية للدين.. وعليكم أن تولوا أمورها السذج من الرجال ولتطمعوا- خفية- ذوي القلوب الكبيرة من الرجال بقطرات من سمومكم بغية التفرقة بين الفرد وأسرته... عليكم أن تنزعوا الأخلاق من أسسها لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة لأنها تؤثر الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة... ولتنفذوا بهم إلى ملاذ الحياة البهيمية".
إن هذا الاعتراف المخزي من الماسونيين لكاف للتدليل على مدى ما بلغت إليه روح المكر والهدم والحقد عندهم إزاء الجماعات الدينية بل إزاء الإنسانية قاطبة.

ج) وبعد...
إننا لم نورد هذه الحقائق إلا لنبرهن على أن جميع المآسي التي نخرت في كيان الأمة الإسلامية الشاهدة ... إنما حدثت كلها في فترات غاب فيها جد المسلمين وضعف فيها عزمهم وتركوا فيها جهادهم.
فتسلح "الذين آمنوا" بعنوان الدعوة المحمدية -الذي هو الجد والجزم والحق- وتحقيقه تحقيقا كاملا في سلوكياتهم وأعمالهم يمثل الغيظ المنغص لأهل الباطل وأصحاب القلوب المريضة... تماما كما تحقق ذلك في سلفهم الصالح واعترف لهم به عدوهم. جاء ذلك على لسان أحد الملوك في قوله ׃ " كيف لي بقوم لو اقسموا على أن يزيلوا جبلا من مكانه لأزالوه " ( أو كما جاء في رواية أخرى " لا طاقة لي بقوم إذا أرادوا خلع الجبال لخلعوها").

4) المسجد.... ليس مكانا لطقطقة المسابيح
المسجد في الإسلام ليس مجرد مكان للكوع ولسجود وطقطقة المسابيح. فذلك ما خطط له الاستعمار وأقنعنا به نحن في هذا العصر.
إنما المسجد هو أيضا مركب جامعي ومكان لمناقشة مشاغل الناس ومشاكلهم الحياتية والأخروية.
ونظرة منصفة إلى التاريخ تؤكد ذلك.
إن أول عمل بادر بإنجازه الرسول صلى الله عليه وسلم بطيبة- المدينة المنورة- هو وضعه لحجر الأساس لأول مسجد جامع بها والمشاركة في بنائه وتجهيزه.
ولا يخفى على الدارس الحصيف أن الرسول إنما أراد بعمله هذا أن يربط العباد بخالقهم من هذا المكان بعد أن غرس فيهم بذور التوحيد وزين لهم الإيمان وحببه إليهم وشوقهم إلى الطاعات والعبادات. فكان هذا المسجد النبوي البكر بمثابة المكان "اللقيا" الذي يتجمع فيه المسلمون.
وكانت تبرم داخله عناوين الفتوحات وتسوى فيه أمور الدولة وتفصل فيه قضايا ومشاغل الأمة.
ولم يأخذ قط تلك الصبغة الإدارية الجافة التي تردى فيها في عصرنا الحاضر والمتمثلة في فتحه وغلقه في أوقات معينة ومحدودة بعد أن كان- في أيام عزه- مفتوحا على مصراعيه آناء الليل وأطراف النهار لا يمنع من دخوله مسلم أيا كان وكيف يغلق وهو منزل عابر السبيل وكلية التعليم ومنتدى التثقيف ومجلس القضاء وخلوة الذكر والتسبيح ؟؟

أ) المسجد ׃ مركب جامعي
كان جامع "المنصور ببغداد" وهو اقدم جامع بها اشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية وقد أحصى المقدسي في تاريخه ( ص 205) في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرة من مجالس العلم أي بمصطلحاتنا المعاصرة نقول 110 كلية هذا بدون أن ننسى "الأزهر" و"الزيتونة" و"عقبة"...
غير أن هذا لم يدم طويلا للأسف " فقد كان تغير طريقة التعليم سببا في إيجاد نوع جديد من المؤسسات العلمية ذلك انه لما انتشرت طريقة التدريس نشأت المدارس ولعل من اكبر الأسباب في ذلك أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بما يتبعه من مناظرة وجدل قد يخرج بأصحابها أحيانا عن الآداب التي تجب مراعاتها للمسجد.
فالقرن الرابع هجري كما يقول " آدم متز" في كتابه عن الحضارة الإسلامية ( ص336) هو الذي اظهر هذه المعاهد الجديدة التي بقيت إلى يومنا هذا.

ب) المسجد ׃ دار قضاء
يذكر صاحب الأغاني ( ج10 ص 123 ) أن القاضي كان في أول الأمر يجلس في مكان لا يمنع أحد من المسلمين من الدخول إليه وهو المسجد الجامع حيث كان يجلس إلى اسطوانة من أساطين المسجد.
غير أن المعتضد ( سنة 279 هجري) أمر أن لا يقعد القضاة في المسجد بحجة أن جلوس القاضي في المسجد يتنافى مع ما يجب لبيوت الله من الحرمة.
أما في عصرنا الحاضر فلم يبق للمسجد من الخصوصيات والميزات التي كان يتمتع بها قديما والتي ذكرنا بعضها آنفا ... في حاضر أيامه إلا انه "مصلى" يفتح خمس مرات في اليوم يلتقي عندها أعداد محدودة لأداء الصلاة.
ولاعجب في ذلك إذا علمنا أن الاستعمار لما خطط لإسقاط الأمة الإسلامية كان همه الأساسي يستهدف تشويه رسالة المسلم في هذه الحياة وإضعاف دوره فيها واثباط فاعليته في التمدن والتحضر وعرف انه لن ينجح في ذلك إلا بتحقيق شرطين اثنين ׃
1- تمييع علاقة المسلم بكتابه- القرآن- وصرفه عن الأخذ بآدابه والتحلي بأخلاقياته والعمل بأحكامه والتناصح بأوامره. وهذا الشرط الماكر لا يؤتي أكله إلا بتحقيق الثاني ׃
2- تقزيم دور المسجد في الحياة الاجتماعية وتهميشه وحصر دوره في مجال الركوع والسجود وطقطقة المسابيح... ومن ثم تولى- الاستعمار- إيجاد وبناء مؤسسات بديلة للتثقيف واللهو وخنق الفراغ حتى يستولي على اهتمام المواطن المسلم ويزهده في ارتياد المسجد.
والحقيقة المرة أن هذه البدائل المائعة قد ضيعت على المواطن المسلم كثيرا من فرص الاستفادة الحقة والتلقي النافع والتربية القويمة وهو ما  ابطل فيه روح الإبداع الواسع.
ونظرة منصفة إلى الواقع تبين بوضوح مدى جدوى وسلبية وسائل ومضامين هذه البدائل التي استحوذت باهتمامات الشباب وتبين أيضا مدى الانحطاط الخلقي والفساد التربوي الذي حصل عندما تخلى المسجد عن دوره كمدرسة وكموجه.
ولأنهم يدركون- بالتجربة- مدى خطر دور المسجد في تحصين الفرد المسلم نرى الأعداء (أعداء الأمة الإسلامية) على اختلافهم يخططون بكل طرقهم ووسائلهم لتقليص دور المسجد ولو اقتضى الأمر هدمه أو تشويهه. واليك بعض الشواهد׃
1- في روسيا الشيوعية لم يبق من جملة 30 ألف مسجد إلا 30 منها.
2- مجمع الأحبار الإسرائيلي شكل لجنة من ثلاثة أعضاء متخصصين في التلمود لإصدار فتوى حول جواز ممارسة الطقوس الدينية اليهودية من فوق جبل المعبد الذي يطلقه اليهود على منطقة المسجد الأقصى... وتجمع التقارير على أن الهدف الواضح من وراء ذلك هو هدم المسجد الأقصى ومسجد إبراهيم برخصة تلمودية ( مجلة الأمة- عدد 26- ص 88) لأنهم أيقنوا أن الفدائي الذي ينطلق من ثكنة المسجد لا ينهزم ولا تقف أمامه قوة ما.

الهوامش׃
(1) فقرة لمحمد فريد وجدي- نقلا عن كتاب "مسلمون وكفى"- لعبد الكريم الخطيب- ص 15/16
(2) "مسلمون وكفى" -ص 38
(3) "الظلال "- سيد قطب- المجلد الأول- ص 401 /402.
(4) " الإسلام المفترى عليه"- محمد الغزالي
(5) ردة- للندوي
(6) منهج جديد في التربية والتعليم- المودودي



No comments: