[ جزء 4 - صفحة 587 ]
وأما قولهم إنهم شهدوا آخر حكمه صلى الله عليه وسلم وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش وكذب ظاهر بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة فظهر فساد كل ما موهوا به وبنوه على هذا الأصل الفاسد وأسموه بهذا الأساس المنهار
وأما قولهم إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الباقون بالمدينة وبعلمه الأقل وهم الخارجون عن المدينة فتمويه ظاهر وشغب غث وإنما كان ممكن أن يموهوا بذلك لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة
وأما ولا يجدوا هذا أبدا ولا في مسألة واحدة وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك وروايتهم كذلك فممكن أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن النفر من الصحابة وبعلمه الواحد والأكثر منهم وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة ويمكن أن يبقى بها ويمكن خلاف ذلك أيضا ولا فرق وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
وأما قول عبد الرحمن لعمر الذي ذكرنا في تأخير الأمر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس وأهل الفقه وأهل العلم فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحدا وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الأمصار سواء ولا فرق وأيضا فما كل قول قاله عبد الرحمن ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة وقد علم جميع أهل الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم ألا هل بلغت وأشهد الله تعالى عليهم إلا في الموسم أحفل ما كان في الأعراب وغيرهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما
وبرهان ذلك أنه لو سلك الأئمة هذا الرأي ما تعلم جاهل شيئا أبدا فصح أنه لا بد من مخاطبة الرعاع والجهال بما يلزم علمه والعجب كله أنهم يموهون إجماع أهل المدينة ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذون بسواه وهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم
[ جزء 4 - صفحة 588 ]
ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري وسحنون التنوفي من إفريقية لأن ابن القاسم أخذ عن مالك ولأن سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك ولا يرون لأخذ مسروق والأسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجها ولا معنى ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتا لهم وكشفا لتناقضهم وهم أترك خلق الله لإجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مفتتحي خيبر إلى اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى ويخرجونهم متى شاؤوا وبقي كذلك إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه
فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة
هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسوخ تقليدا لخطأ مالك
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن ميسرة نا ابن وضاح بن يحيى نا مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن حاتم نا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة فهذا إجماع أهل المدينة حقا وعملهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة حقا
فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة هذا عمل لا يجوز ولا يجزىء تقليدا لخطأ مالك وخلافا لأهل المدينة وتمويها برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها
وتركوا عمل أهل المدينة كل من حضر منهم مع عمر في سجوده في { إذا لسمآء نشقت } وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه ثم رجع إلى خطبته فقال هؤلاء
[ جزء 4 - صفحة 589 ]
المنتمون إلى اتباع أهل المدينة
هذا لا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لأهل المدينة أعم من هذا وتركوا إجماع أهل المدينة إذ صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر صلاة صلاها بالناس فقالوا هذه صلاة فاسدة تقليدا لخطأ مالك في ذلك
والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحد بعدي جالسا
وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها فهل في العجب أكثر من هذا وهم يقولون إن إجماع أهل الكوفة هو الإجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة
حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان نا عمرو بن أيوب نا أفلح بن حميد نا محمد بن حميد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وابن شهاب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب
وقال القاسم أخبرتني عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال كان عبد الله رجلا حادا محدا كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله قال سالم صدق
فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم فقال هؤلاء المدعون إنهم يتبعون أهل المدينة لا يجوز ذلك تقليدا لخطأ مالك واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضا لكن موهوا بإيرادها
وذكر قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمر بن
[ جزء 4 - صفحة 590 ]
عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا ورأى ذلك الزهري
قال أبو محمد فهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا أو أفشى منه فقال هؤلاء المموهون باتباع أهل المدينة هذا لا يحل ولا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب أن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل
ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين أحدهما لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الأمصار وهو الأقل
والثاني قد وجدنا فيه الخلاف كما هو موجود في غير المدينة
قال أبو محمد ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه من إجماع أهل المدينة من أن يكون عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون عن اجتهاد وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه أو إلى خلاف النص
ثم لو صح لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا هذا الوجه فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد
فهذا محال غير ممكن لأن كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم وحتى لو صح أنهم كتموه لسقطت عدالتهم قال الله عز وجل { إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون }
[ جزء 4 - صفحة 591 ]
ولقد أعاذهم الله من هذا فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة
وأيضا فإن الإجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله أو بنقل تواتر وهم لا يرجعون في دعواهم الكاذبة لإجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد وهو مالك فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق
وأيضا فيقال لهم أخبرونا هل خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة
فإن قالوا نعم كفروا وكذبوا إذ جعلوه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب وإن قالوا لا ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق
وأيضا فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجاهدون ويحجون ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم
وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الأمصار عن أهل المدينة وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الأمصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين وصحب الشعبي وابن سيرين بن عمر وصحب قتادة بن المسيب وأخذ الزهري عن أنس وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي وأخذ عبيد الله بن عمر عن ثابت البناني وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس
وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال نا عبد الوارث بن حسرون نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب نا أحمد بن حنبل نا عبد الرحمن بن مهدي سمعت مالك بن أنس يقول قال سعيد بن المسيب إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد فاستوى الأمر في المدينة وغيرها بلا شك
No comments:
Post a Comment